رجعت لبيتى بعد صلاة الصبح ، ودخلت الفراش ونمت على سرير ومرتبة ناعمة ، وحمدت الله على نعمته ، ورجعت بخيالى لذكريات مضت ربما لايتخيلها كثير من أبناء الجيل الحديث ، وكررت الشكر لله ، وتذكرت أياما من عمرى كنت أنام فيها على فراش أقل جودة ومنها الحصير ، مع أن والدى كان مدرسا وكان حالنا أحسن من غيرنا .
وهذا ماكان عليه أكثر الناس ، وخاصة فى الريف عندما كنت طفلا .
ولقد عاصرت القدامى فى الريف وأنا صغير جدا ، وأظن أن أحدا من أبناء هذا الجيل لايتخيل كيف عاشوا ، ولا يتحمل أن يعيش مثل ظروفهم ، ولو عرفوها لحمدوا الله كثيرا على نعمته التى يعيشون فيها ، ولعرفوا مابذله آباؤهم من أجلهم .
واسمحوا لى أن أذكر لكم مارأيته وماكان عليه أحد من عاشوا فى هذا الزمن ، وكان رجلا عجوزا ، وكان لايملك هو وزوجته من الدنيا إلا عشة قصيرة مبنية بالطوف وليس بالطوب ، وحوض مياه عليه طلمبة لرفع المياه الجوفية ، يظل يعمل عليها ليملأ هذا الحوض لتشرب منه الدواب وهى ذاهبة إلى الحقول أو عائدة منها مع أصحابها من الفلاحين .
وكان الرجل ينتظر موسم الحصاد ليدفع له الناس بعض الثمار ليتقوت منها طول العام ، وكنا نفرح ونحن فى طفولتنا عندما يطلب الرجل العجوز منا تشغيل الطلمبة بدلا منه حين يتعب من العمل لأنه لم يرزق بذرية لتساعده ، و كان يمتلك شجرة للتوت يأكل منها الناس فى موسم التوت ، ويأخذون ورقها لتربية دودة الحرير ، وكان يتركنا لنأكل من شجرة التوت مقابل مساعدته فى تشغيل الطلمبة لملء الحوض ، ونجلس حوله ليحكى لنا بعض القصص المسلية .
وقد رأيت بنفسى الفراش التى ينام عليها الرجل وزوجته العجوز ، وهى حصير قديمة من البوص فى مثل عمرهم ، وكان لهم كانون (طبعا الجيل الجديد لايعرف الكانون) وهو بديل الوابور أو البوتاجاز الذى ننعم بإمكانياته الآن ، وكانوا يستخدمونه لعمل الشاى .
هكذا كانت حياة أغلب الناس فى زمن مضى ، حيث كان الشقاء والتعب ، وفى المقابل عائد لايكاد يسد متطلبات الحياة الأساسية ، لكنهم عاشوا بالبساطة والصبر والشكر والرضى ونقاء القلوب واحترام العمل مهما كان عائده والتماس البركة من عند الله .
— هل يتخيل أحد أن مثل هؤلاء كانوا يعرفون محلات الجزارين أو بائعى الفاكهة أو الخضار ؟
** وهنا سألت نفسى ، هل أنا أفضل من هؤلاء حتى أعيش فى هذا النعيم الذى أراه الآن .
*** وتذكرت ما نعرفه جميعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذى كان الحصير الذى ينام عليه يؤثر فى جسده الشريف .
– فإذا كان هذا ماكان عليه صلوات ربى وسلامه عليه ، وكان يقول : أفلا أكون عبدا شكورا ؟
فما بالنا لا نتأسى به ونكون من الشاكرين ؟
– يقول سبحانه :
لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لايكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا (الطلاق 7)
– ويقول سبحانه :
لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد (إبراهيم 7)
*** ويقول البحترى :
ما أضعف الإنسان لولا
قوة ..
فى رأيه وأصالة فى
لبه
من لايقوم بشكر نعمة
خله
فمتى يقوم بشكر نعمة ربه؟
*** الحمد لله فى سرى وفى علنى ، والحمد لله فى حزنى وفى سعدى ، يارب لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك .

More Stories
حين تغيّر الحلم أو تغيّرنا نحن؟
كنتُ الأمان فاتهموني أني الوجع /حين شُبّهتُ بغيري وظُلِمت بصدق مشاعري
حين أخذتك السماء وأغلقت خلفك الأبواب