نوفمبر 8, 2025

جريدة الحياة نيوز

رئيس مجلس الادارة : نسرين رمزي

نوادر العميان في مجتمعنا الغفلان

طارق الشناوي

نقابل كل يوم مواقف تعكس وعي الشعب المصري الطيب الذي يتعامل بالفترة وما اكتسبه من ثقافات سليمة أو مغلوطة عن طبيعة المكفوفين وكيفية التعامل معهم على كل المستويات في الحركة أو الحوار أو التخيل والفهم, لذلك تحدث العديد من المفارقات التي تحتاج من المكفوفين أنفسهم إدراك أنهم يتعاملون مع مجتمع يحتاج الكثير من الوعي والفهم وإعادة النظر في كثير من المفاهيم التي لصقت بزهنه وأصبح يتعامل على أساسها دون الإلتفات لأي اعتبارات أخرى, ويتساوى في ذلك المتعلم والجاهل وأعلى درجات الطبقة المثقفة وهذا نظرا لعدم أو قلة الاحتكاك بهذه الفئة, ودائما ما تسود نبرة الإعجاب والانبهار تجاه سلوك أو حركة أو فعل غير متوقع من المكفوفين وهو بالنسبة إليهم في الإطار الطبيعي, أو تسود نبرة الشفقة والعطف ومصمصة الشفاه عند مجرد رؤية أحد المكفوفين دون أن يصدر منه أي سلوك أو حركة أو فعل, وقد ارتبط في أزهان الناس صورة الشيخ أو الشحاز مهما كان شكل الكفيف, فقد حكى لي أحد المكفوفين المقربين من الأصدقاء أنه في ذات يوم كان مرتبط بموعد مع إحدى الفتايات لذا فقد بالغ في الاهتمام بمنظره من حيث الملبس والحقيبة التي يحملها والأجهزة من موبيل ولاب وغير ذلك من الأشياء التي تلفت انتباهها, وكان وسيلة المواصلات سبيله للوصول لفتاته هي مترو الأنفاق وعند نزوله السلم رافقه أحد المتطوعين بتوصيله حتى وصل به إلى ماكينات الدخول طالب الأمن باستكمال توصيله وقد ترك في يد صاحبنا بعض الجنيهات رجاء الحصول على الثواب الكامل, ولم يعرف ما فعله بنفسية صاحبنا الذي انتفض من هول المفاجأة واعتقد أن به قصور عكس عليه حالة من الإحباط, وتتعدد المواقف التي في حكيها تثير مشاعر متضاربة وكأننا نشاهد أحد أفلام نجيب الريحاني حيث السخرية من الواقع بمآسيه, فتثير الابتسام في الوقت الذي تثير فيه مشاعر الحزن والغضب من واقع فرضه مجتمع تأخرت ثقافاته وتوقفت عند الماضي البعيد.
أطلت ولكن فكروا معي فيما أحكي إليكم من موقف حدث معي عندما كنت في أحد الأماكن الحكومية لإنهاء بعض الأوراق الخاصة بي وعند خروجي تبرع أحدهم لتوصيلي إلى الباب العمومي للمكان بعد انتظاره معي مرور أحد الأشخاص ليصطحبني إلى هدفي مترو الأنفاق, ولما يئس من طول الانتظار اطر للخروج إلى الباب العمومي معي وتركني لأمن المكان يتولى استكمال المهمة في البحث عن رفيق أخر, وبعد فترة جاء الشخص المنشود وليته لم يأتي, تولى المهمة وأمسك يدي وبدأنا الرحلة الشاقة إلى مترو الأنفاق وصار معي كأنه يسير بمفرده لا يلتفت لما حولي أو ما يمكن أن أصطدم به, أخذ يسير على الرصيف بحيث لا يعطيني مساحة للسير بجانبه وبالتالي كنت أطر للنزول أكثر من مرة رغما عني وفي كل مرة يقول لي حاسب خذ بالك, وقد بالغ في الاهتمام بأن يجعلني أداة لعقاب الواقفين والمارين وكأنه ينتقم منهم لحاجة في نفسه بأن اصطدم وحقيبتي بهم وفي كل مرة يكررها حاسب خذ بالك انظر أمامك, وكدت أخرج عن شعوري لتخرج كلمات مني تعبر عن غضبي واعتراضي عما يحدث ولكن في كل مرة ألتمس العزر وأرع الأمور لثقافة من يصطحبني, وفي الطريق صادفتنا حفرة صغيرة عن مستوى الأرض جعلني على حافتها فذلت قدمي وشعرت بإلتواء شديد وفقدان توازني ولكنه أمسك بي حتى لا أقع وكررها حاسب خذ بالك واستمر في السير دون أي اهتمام, وبعدها طلب مني الصعود إلى رصيف مرتفع فسألته لماذا والشارع واسع فقال لي أنه به مجاري فتوجست خيفة واعتقدت بأني واقع فيها لا محالة وأخذت حزري وسرت خلفه أترقب الجديد من الحوادث, وقد عبرنا بحمد الله هذه العقبة وبدأنا في نزول الرصيف لتقابلنا عقبة جديدة وهي عربة بحصان تسير في مكان ضيق ولم ينتظر بل آثر المرور فكانت النتيجة احتكاكي بها فأخذ يكرر الجملة التي حفظتها ولكنني لم أعمل بها خذ بالك وانظر أمامك, وأخذت أردد في نفسي ليتني سرت بمفردي وأنا واثق بأني كنت لم أصطدم بكل العوائق التي جاملها صاحبنا على حسابي, ووصلنا بحمد الله إلى سلم المترو الخارجي وقد ازدحم بالبائعين والمارين صعودا وهبوطا وقد التزم صاحبنا بمبدئه في عقاب الأخرين بي وكأنه يقول لهم أني أكرهكم وهذا عقابكم, ووصلنا إلى ماكينات الدخول فتركني وأنا أحمد الله على الوصول بأقل خسائر ممكنة بالرغم من الإصابات والردود والمجهود المبزول في رد فعل الاصطدام والناس التي التزمت الصمط وعدم الاعتراض المبالغ فيه نظرا لإشارات صاحبنا لهم بأن المشكلة في انعدام الرؤية بالنسبة لي والشبورة التي غطت طريقي فأصبح الاصطدام ضرورة سير وإلا إلتزم مكاني في البيت حتى لا أتعرض لمثل هذه المواقف.

وهنا فكرت هل ثقافة صاحبنا هذا هي السبب فيما حدث, أم طبيعة شخصيته اللا مبالية والاهتمام بنفسه فقط؟ هل كان يفكر أو مشغول بملكوت الله من مشاكل تحيط به من غلاؤ ومسؤوليات ومتطلبات فنسي نفسه ومن حوله؟ هل لم يكلف نفسه عناء الاهتمام بي لعادته في السير بمفرده فكنت دخيلا على المساحة التي يسير فيها فأصبحت خارجا عن مهامه؟ تساؤلات كثيرة دارت برأسي وأنا أشعر بألم قدمي وألمي من المجتمع الذي نعيش فيه.