بقلم د. طــارق رضــوان
(قيصــر الأدب)
الجنون.. ليس مجرد لفظة تطفو على السطح، بل هي كامنة في عُمق العقل الإنساني، وبالأحرى العقل المبدع.
فلو كُنت تعتقد أن العُقلاء الأسوياء هم الذين أثروا على أحداث التاريخ بمفردهم ، وأنهم بنوا الحضارة التى نعيش أقصى امتداداتها حالياً .. فأنت مُخطئ..ربما تتوقع أن تكون كلمة ” مجانين ” هنا المقصود بها المبالغة .. أو كونهم ” مهووسين ” أو Geeksأثروا فى تاريخ البشرية .. أو لديهم مثلاً عادات وتقاليد غريبة كعادة العُظماء والمخترعين والعلماء والمبتكرين..المؤكد أن مقولة ” الفرق بين العبقرية والجنون شعرة رقيقة ” .. هي مقولة صحيحة أحياناً !
وعلى مر تاريخ البشرية كان عباقرة الأدب، الذين وصلوا إلى أقصى درجات الإبداع الأدبي، أنهوا حياتهم في المصحات النفسية والعلاجية.
فالعباقرة مبدأهم مثلما قال فوكنر: “لا تكف عن الحلم، واطمح إلى أعلى مما تحسب أنك قادر على تحقيقه، لا تقصر اهتمامك على أن تبز معاصريك أو أسلافك، حاول أن تتفوق على نفسك، الفنان خالق تدفعه الشياطين، وهو لا يعرف لماذا اختارته الشياطين هو بالذات، وهو دائم الانشغال بالتساؤل عن سر ذلك”.
فى هذا المقال سوف أعرض مجموعة من العباقرة والأدباء والفلاسفة فعلي الرغم من مكانتهم التي وصلوا اليها الا أنهم لازمتهم عادات سيئة، وغريبة جدا، جعلت منهم مجنونين وغريبي الأطوار.. فأولهم فشل في دراسته لكنه غير العالم: الكاتب القصصي الروسي تولستوي الذي حاول إصلاح المجتمع بالعدل والمحبة، ومن أشهر رواياته (إن كارنينا) و(الحرب والسلام).
كذلك الفيلسوف والأديب الفرنسي فولتير لم يكن يستطيع الكتابة إلا إذا كانت أمامه مجموعة من أقلام الرصاص، وبعد أن ينتهي من الكتابة يحطمها ويلفها في الورقة التي كتب فيها ثم يضعها تحت وسادته.
وأيضا الكاتب والقصصي الفرنسي بلزاك الذي درس أحوال عصره دراسة دقيقة، من العادات الغريبة التي عرفت عنه أنه كان يسير في أحد الشوارع ويسجل أرقام المنازل في ورقة، ثم يجمع هذه الأرقام، فإذا كان المجموع مضاعفا للرقم ثلاثة، شعر بسعادة غامرة لأنه كان يتفاءل بهذا الرقم، أما إذا لم يكن المجموع كذلك فإنه يغير اتجاهه إلى شارع آخر. والأديب المجرم: الكاتب والشاعر الإيرلندي أوسكار وايلد كان غريب الأطوار، إذ كان يطيل شعره كالنساء ويزين غرفته بالزنابق وريش الطاوس، كما حكم عليه بالسجن أكثر من مرة لاتهامه في جرائم أخلاقية.ينسى الطعام ولا ينام لعدة أيام.
بيسوّا والأنداد السبعون : أنطونيو فرناندو نوغيرا دي سيابرا بيسوا(1888– 1935) هو شاعر، وكاتب وناقد أدبي، ومترجم وفيلسوف برتغالي، ويوصف بأنه واحد من أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، وواحد من أعظم شعراء اللغة البرتغالية، كما أنه كتب وترجم من اللغة الإنجليزية والفرنسية. اشتهر (بيسوا) بكتاباته التي لا تحمل اسمه، وإنما بأسماء مستعارة. لم تكن حياة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا (1888 – 1935) سهلة مُنسابة، بل تخلّلها الكثير من الصعوبات والأحداث المُفجِعة. كوفاة والده ثم أخيه بعد سنة، وزواج والدته وانتقالها إلى جنوب أفريقيا، ثم عودته إلى لشبونة عام 1905، ومشاركته بتظاهرة طلابية ضد رئيس الوزراء البرتغالي جواو فرانكو التي وضعت حداً لحلمه الدراسي وأجهضته تماماً.
منذ طفولته اخترع بيسوا شخصين خياليين كي يساعداه على العيش. لكن الشخصيات الخيالية التي ابتدعها لاحقاً في حياته الكتابية، بلغ عددها 72 شخصية أبرزهم ألبرتو كاييرو وألفارو دو كامبوس وبرناردو سواريش، ولم يخصّ نفسه إلّا بعمل واحد ونصوص متفرّقة، ما جعله ظاهرة أدبية غريبة.
يوميّاته “الكاتب المُختبئ وراء أنداده السبعين” ترجمة المهدي أخريف، تكشف عن التناقضات الحادّة التي تنطوي عليها شخصية بيسوا المُعقّدة، فهو ميّال للعزلة، ويجد ضالّته في القراءة والتأمّل، بعيداً عن المجتمع وحتى الوسط الأدبي. وبعد 30 عاماً على وفاته في العام 1968 اكتُشفت “الحقيبة السحرية” لمخطوطاته (27423 نصاً أو وثيقة) هي أعماله الكتابية كلها التي كان وزّعها ونشرها بأسماء “أقرانه” السرّيين المُخترَعين. كأنه في هذا أراد أن يكون المحور السرّي لـ”الحركة الأدبية البرتغالية الحديثة” في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
عاش الكاتب التشيكي كافكا في ظلّ سطوة الأب القاسي هيرمان. لم يكن سعيداً في عمله أو داخل جسده الواهِن، ولم يكن عموماً يشعر بالرضا عن ذاته. اختار رمي نفسه نحو الكتابة في عزلة عاطفية واجتماعية تمثّل شرخاً كبيراً في علاقته بالعالم، فالعالم الذي عاشه هو نفسه الذي بناه .. الغربة الخانِقة المجرّدة من الإنسانية. إن عزلة كافكا كانت واضحة جداً في جميع أعماله الأدبية، أعطت القارئ إحساساً عالياً وعميقاً بالمرارة والظلمة، كما في روايته “المسخ”.
كما قدّم الفيلسوف الإسلامي أبو حامد الغزالي تجربة مُلهِمة في الاعتزال؛ حيث ترك حياة التدريس والمُناظرات والمُناكفات مع الشيوخ والطلاب عشر سنين، وعبر الصحراء وحده بحثاً عن ذاته؛ متأمّلاً في وجوده، حتى أخرج موسوعته “إحياء علوم الدين”، كأحد أهم الكتب في عِلم التصوّف، حتى قيل عنه: “مَن لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء!”.
وهناك الكثير من الأمثلة على الفن المُستلهَم من العزلة، بما في ذلك، فلاديمير نابوكوف، وإميلي برونتي، ووالت ويتمان، وغيرهم. ولا ندري إن كانت أسلوباً فنياً، لكنها تبقى – بغضّ النظر عن أسبابها سواء كانت اختيارية أو اضطرارية – ذات رونق وسحر في جعل النفس البشرية أكثر صدقاً مع الواقع، حيث لا مكان للخوف، بل مكان للشفاء، مكان للتذكّر، بعيداً عن التعقيدات ومشاكل العالم والإنسانية، كما يقول بليز باسكال، الفيلسوف الفرنسي: “تنشأ كل مشاكل الإنسان من عدم قدرته على الجلوس وحده في غرفة هادئة لفترة كافية من الزمن” .وللعزلة أثر مؤكّد في الاستكشاف الداخلي للشخصية، ودراسة الأفكار الخفيّة، وتحقيق الحرية الوجدانية الخاصة، ومراجعة الاعتقادات الخاطئة، وبالتالي التأثير الإيجابي في الأعمال الأدبية والإبداعية.
فعلى الرغم من العظمة والخُيلاء التى تبدو عليه صورة تشارلز السادس المرسومة ، إلا أن التاريخ يُشير أن الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً! الملك تشارلز السادس ملك فرنسا كان يُطلق عليه قومه اسم : تشارلز المجنون … ومع ذلك ، فقد حكَم فرنسا فترة طويلة جداً. اي حوالي 42 عاماً. وبدأ يتبنى نظريات غريبة ، مثل اعتقاده أن جسده مصنوع من الزجاج ! وعلى الرغم من غرابة هذا الاعتقاد ، إلا أن الطب النفسي الحديث أثبت بالفعل أن بعض المرضى النفسيين يعانون من نفس الفكرة ، ويعتقدون أن أجسادهم مصنوعة من الزجاج ، ومن الممكن أن تتهشم فى أي لحظة ! لذلك ، كان تشارلز السادس يرفض تماماً أن يحاول اي أحد مجرد الإقتراب منه ولمسه .. ودائماً ما كان يرتدي ” درعاً ” حديدياً فى كافة تحركاته ، حتى لا يتهشم جسده الزجاجي!
أبراهام لينكولن: هو الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الامريكية ، وأحد أشهر وأكفأ رؤساها على الإطلاق. وعلى الرغم من إنجازاته ، إلا أن الرئيس لينكولن كان معروفاً عنه ميله إلى ” الإكتئاب الحاد المُزمن ” .. من الطبيعي أن يشعر أي شخص بالحزن من فترة إلى أخرى ، ولكن لينكولن كان معروفاً عنه احساسه الدائم بالإكتئاب الحاد.. حتى أن بعض المؤرخين لسيرته ذكر أن فكر فى الإنتحار عدة مرات..وذكر أيضاً بعض المؤرخين انه كان يبكي فجأة بدون سابق إنذار .. ثم يُطلق بعض النكات المرحة بعد بكاءه حتى ” يوازن الحزن ” الذي يشعر به ! .. والمعروف عنه أنه كان كثير العمل والجهد حتى لا يُعطى لنفسه الفرصة للشعور بالإكتئاب ، وكان شديد الإيمان بالنواحي الدينية والقدرية والانسانية ، التى كانت تخفف عنه شعوره الدائم بالحزن والأسى والإكتئاب الغير مُبرر !
ومن المستحيل ألا تكون قد سمعت عن فان غوخ .. الفنان الرسام الهولندي الشهير ، الذي بلغ جنونه المُطبق أنه قام بقطع إحدى أذنيه بنفسه ، وحاول الإنتحار عدة مرات ، إلى أن وُفق لذلك فى النهاية ، ومات مُنتحراً بالفعل ! الرسام الهولندي العبقري كان يُعانى من نوبات صرعية عنيفة نتيجة مشاكل فى المخ سببها إدمانه البالغ للمشروبات الكحولية والمخدرات .. وكان يحمل حماساً شديداً ” غير طبيعي ” للرسم من ناحية ، وللدين من ناحية اخرى !.. حتى أنه كان ينهى لوحاته الصعبة والمعقدة بسرعة كبيرة ، ثم يدخل فى فترة طويلة من الإكتئاب .. مما جعل كل النظريات العلمية تؤكد أنه كان يُعانى من إضطرابات نفسية ثُنائية..
تينيسي ويليامز: كاتب مسرحي امريكي شهير ، نال جوائز عديدة على اعماله العالمية الشهيرة.. وُلد فى أسرة لها سجل حافل بالامراض النفسية ، فضلاً عن إدمانه الشديد للكحوليات والمخدرات.. زاد من حدة معاناته النفسية هو موت حبيبته ، وقبل ذلك وفاة أخته التى كانت مُصابة بمرض الشيزوفرانيا خلال عمليه جراحية .. مما أدى إلى الإلقاء به فى غياهب الظلام والامراض النفسية والإكتئاب ، وكان دائماً يخاف الإصابة بالجنون مثل أخته .. خوفه الدائم أن يُصاب بالجنون مثل أخته ، جعله يُجن بالفعل ويعانى من اضطرابات نفسية بالغة حتى وفاته !
لا أحد لا يعرف الملحن والموسيقى العالمي بيتهوفن ، حتى ولو لم يكن من هواة الموسيقى .. هذا الاسم أصبح شهيراً جداً في التاريخ الإنساني للمهتمين بالموسيقى أو الغير مُهتمين..بيتهوفن كان عبقرياً حقيقياً عانى قهراً طويلاً وتعذيباً شديداً من والده ، وكان هذا هو السبب فى أنه فقد حاسة السمع فى مراحل متقدمة من حياته ..
مثله مثل أي عبقرى آخر – غالباً – ، كان بيتهوفن يُعانى من اضطرابات نفسية عنيفة ، جعلت الإبداع والطاقة والتركيز والروعة التى يُنتجها فى الموسيقى ، يُقابلها اكتئاب حاد ووحدة وظلامية وحزن دائم ..
إدغار آلان بو: كاتب الرعب الأشهر على الإطلاق ، المعروف بكتاباته السوداوية ، وعوالمه الرهيبة التى نقلها من عقله إلى الورق ! إدغار آلان بو كان معروفاً باهتمامه الشديد بعلم النفس ، وانعكس ذلك على كتاباته حيث كان شغوفاً للغاية فى إظهار الشخصيات المُضطربة نفسياً والتى تُعانى من جنون مُطبق مخيف .. ولكن ، هل كان هو نفسه مجنوناً ، وانعكست شخصيته على كتاباته ؟! كل الوقائع كانت تقول نعم .. وبُعنف !
في سن التاسعة عشرة من عمره ، أصبح المراهق هوارد هيوز مليارديراً يمتلك عدة بلايين من الدولارات. الرجل الثري الوسيم كان يحمل خوفاً هائلاً من الجراثيم ، جعلته بمرور السنين يُدمن تعاطي بعض أنواع المُخدرات ، في محاولة للتغلب على أعراض الفوبيا التى يحملها من الجراثيم إلى حد الجنون .. هذه الفوبيا جعلت لديه نوع متقدم من مرض الوسواس القهري ، الذي جعله يشك فى أي أحد يقترب منه ، مهما كان !
بروفسور جون ناش: عالم عبقري فى الرياضيات حصل على جائزة نوبل فى الإقتصاد عام 1994 ، بعد أن طوّر نظريته الخاصة عن الإتزان ، سماها نظرية ناش للإتزان.. كان يُعانى من حالة متقدمة من الشيزوفرانيا أو ” الفصام ” ، تجعله دائماً يسمع أصوات غير حقيقية ، ويرى شخصيات وهمية.. وتم حجزه اكثر من مرة فى مستشفيات ومصحات نفسية ، وخضع للعلاج بصدمات كهربائية وأنهار من الادوية..
ولكنه كان عبقرياً بكل ما تحمله الكلمة من معان ، واعتُبر قصة كفاح مُذهلة ، كانت جديرة لعمل فيلم من أضخم أفلام هوليوود ، حقق نجاحاً مُنقطع النظير..
إرنست هيمنغواي: الأديب الأمريكي الكبير الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1954 ، وأحد أشهر الرواة وكاتبي القصص فى الولايات المتحدة والعالم اجمع..
كان هيمنغواي ضحية دائمة للإكتئاب وإدمان الكحوليات ، ومات مُنتحراً بطلقة رصاص من بندقيته التى كان يحتفظ بها دائماً ويعتز بها جداً .. وهو المصير الذي استمده على مايبدو من مصير والده وأخوه واخته ، الذين ماتوا جميعاً مُنتحرين أيضاً.
اسحاق نيوتن: أحد أعظم العقول البشرية على الإطلاق .. وعدّه البعض درة العقل البشري ، لدرجة تصنيفه ثاني أعظم شخصية فى التاريخ بعد رسول الاسلام العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ، من قبل بعض المؤرخين الكبار..نيوتن كان عبقرية تسير على قدمين ، والمنظّر الأول لقانون الجاذبية وقوانين الحركة ، ومخترع اول تيليسكوب عاكس ، وعشرات الإختراعات والقوانين الأخرى.. أما بالنسبة فيما يُقال عن شخصيته ، فقد كان باختصار وبإجماع المؤرخين يعانى من اضطرابات نفسية عنيفة حوّلته فى نظر الكثيرين إلى مجنون حقيقي ! الكثير من الكُتاب والمؤرخين المعاصرين يعتقدون أن نيوتن كان مصاباًَ باضطرابات نفسية حادة ، وأنه كان مصاباً بشيزوفرانيا شبيهة بالتى كان يُعانى منها جون ناش … ولكن لم يكن العلاج النفسي متوفراً وقتها ، فاستمر معه حتى وفاته !
وربما تشكل شخصيات شكسبير وديستويفسكي نماذج غنية لدراسة ظاهرة الجنون في الأدب، إضافة إلى شخصيات شهيرة مثل دون كيخوته والجندي الطيب “شفيك”. لقد اختلف النقاد ـ ومازالوا ـ حتى اليوم في تفسير حالة «هاملت»، فمنهم من وصفها بالجنون، ومنهم من وصفها بادعاء الجنون، ولكل حجته ومبرراته. لكنهم ربما كانوا أقل اختلافاً في توصيف «الملك لير» الذي بدت صفة الجنون ملائمة تماماً له.
More Stories
الزوجة بين نثريات الإشتياق.. بقلم منى فتحي حامد
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
خطر الصور المفبركة عبر الذكاء الاصطناعي وطرق الوقايه منه